بقلم: ماسينيسا “عمرو” الختالي
على الرغم من أن الأفكار الأولى التي تخطر على أذهان الكثير من الناس عند سماعهم عبارة “مملوكة للدولة” بجانب “الانتعاش الاقتصادي” هي الاشتراكية والسيطرة الحكومية والبيروقراطية، إلا أن شركة المحاسبة PwC تقول إن نسبة الشركات المملوكة للدولة في Fortune Global 500 قد ارتفعت من 9% في عام 2005 إلى 23% في عام 2014. ولا يسع المرء إلا أن يتوقف ويتساءل عن سبب زيادة الشركات المملوكة للحكومة وتمتعها بهذا النجاح في جميع القارات بلا استثناء. ويأخذنا هذا إلى الأسئلة التالية: ما هي الشركات المملوكة للدولة، ولماذا زادت شهية الحكومات لها، وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه في الحفاظ على النمو الاقتصادي المحلي وفي المساعدة على المساهمة في خلق القيمة المجتمعية في مناطق ما بعد الصراع مثل ليبيا واليمن وسوريا؟
الشركات المملوكة للدولة هي كيانات أو شركات أعمال تمتلك الحكومات المحلية أو الأجنبية فيها حصة الأغلبية أو الأقلية. يمكن أن تكون هذه الشركات مملوكة للحكومة المركزية أو لهيئة إدارة إقليمية أو بلدية. ويمكن أن تكون الشركات المملوكة للدولة في أي مجال من المجالات، بما في ذلك المرافق العامة مثل المياه والنقل والطاقة الكهربائية؛ والاتصالات؛ والخدمات المالية مثل المصارف وشركات التأمين؛ والخدمات الاجتماعية مثل المؤسسات التعليمية والخدمات الصحية والمستشفيات.
وعلى الصعيد العالمي، بما في ذلك البيئات التي لا يوجد فيها صراع، لعبت الشركات المملوكة للدولة دورًا محوريًا في اقتصادات الدول النامية والمتقدمة. وأصبحت هذه الشركات مكونًا أساسيًا على مستوى الدولة والبلدية في العديد من الخطط الاقتصادية لدى الحكومات الغربية من أجل توفير الخدمات والتوظيف والأرباح، مع ممارسة عدد كبير منها حضورًا دوليًا في الاقتصاد العالمي. ووفقًا لدراسة نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ظهر أنه من بين شركات Fortune 2000 في العالم في عامَيْ 2010-2011، كان لعدد 204 من الشركات المملوكة للدولة بالأغلبية حضور في 37 دولة.
يبني معارضو الحضور القوي للشركات المملوكة للدولة حجتهم على فكرة أن الشركات المملوكة للدولة تتمتع بميزة تنافسية غير عادلة على القطاع الخاص، وأن اشتراك الحكومة، بمستوياتها العالية من التنظيم والبيروقراطية، يمكن أن تكون له آثار ضارة على الابتكار وعلى روح المبادرة البشرية. أما من الناحية التاريخية، وفي رأيي الشخصي، فلم توفر فلسفة السوق الحرة والرأسمالية حماية اقتصادية واجتماعية كاملة من الفشل أبدًا. إذ تعطينا دروس التاريخ في أمريكا من القرن الماضي أمثلة واضحة على ذلك، اعتبارًا من انهيار السوق الأمريكية في عام 1933 إلى ركود الثمانينيات وحتى انهيار الأسواق المالية الأخير في عام 2007. وعلى الصعيد العالمي، لدينا دروس من أزمة أمريكا اللاتينية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين إلى الأزمة المالية الآسيوية في عام 1998 وحتى حالات الركود الأوروبي والأمريكي الآخذة بالتشكّل والتي يتوقع الخبراء حدوثها.
إن تمت إدارة الشركات المملوكة للدولة في بيئة ما بعد الصراع على النحو الصحيح، سيكون بإمكانها أن تساعد في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي في المنطقة من خلال زيادة الإنتاج الاقتصادي، ومعالجة مسائل البطالة، والتعزيز السياسي لصورة الحكومة وتصورها بأنها مسيطرة. فبعد سنوات من الحرب والدمار، يجب على الحكومات المركزية والمحلية إيجاد طرق لإعادة البناء اجتماعيًا وسياسيًا، والأهم من ذلك اقتصاديًا. وقد يصعب الحفاظ على الاستقرار السياسي بدون خلق فرص عمل جديدة للمقاتلين السابقين ولعامة السكان. ومن الناحية التاريخية، وخاصةً في بيئات ما بعد الصراع، نادراً ما يكون القطاع الخاص مستعدًا لمواجهة تحدي ومسؤولية خلق فرص العمل وإعادة بناء الاقتصاد. وبالإضافة إلى ذلك، وفي رأيي الشخصي، عادةً ما تكون شهية المستثمرين الأجانب في البلدان التي مزقتها الحرب منخفضة، على الأقل في السنوات الخمس الأولى من بعد نهاية الاقتتال وتحسن الأمن.
وللأسف، غالبًا ما تُصاب الشركات المملوكة للدولة في بيئات ما بعد الصراع بالعناصر نفسها التي أدت إلى الصراع الأصلي، بما في ذلك حالات التحسس العرقي والإقليمي والفساد وعدم المساواة في الدخل وعدم وجود فرص عادلة للجميع. ففي بلدان العالم الثالث، تعد الشركات المملوكة للدولة بمثابة ملاذ للفاسدين وغير المهرة في جميع مستويات التشغيل والإدارة. ولذلك، فليس من المستغرب أن يصبح النزاع من أجل السيطرة عليها أساسًا لاستمرار الصراع.
في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، كانت أصوات الخصخصة في الشرق الأوسط وأفريقيا هي الأعلى، وخصوصًا في بيئات ما بعد الصراع مثل العراق وليبيا وأفغانستان وليبيريا. وقد حققت بعض جهود الخصخصة نجاحًا. غير أن البعض الآخر أخفق، حيث جاء الضغط من أجل الخصخصة على حساب دور حكومي قوي في بناء الشركات المملوكة للدولة والتي كان المقصود منها ملء الفراغ الذي تركه القطاع الخاص.
على سبيل المثال، في وقت سقوط نظام صدام حسين في العراق، كان لدى الحكومة أكثر من 500 شركة مملوكة للدولة توظف حوالي 500,000 من القوة العاملة البالغ تعدادها 4,000,000. وبعد السقوط، دفعت السلطة المؤقتة نحو اقتصاد السوق الحر وإلى الخصخصة الكاملة. وقد استند هذا القرار إلى أفكار أيديولوجية بعيدة عن واقع الحال في البلاد. لم يأخذ هذا النهج في الاعتبار الحاجة إلى توفير فرص عمل للشباب العراقي على الفور، والتي كان القطاع الخاص أضعف من أن يخلقها. وقد أدى التفكيك الفوري للمؤسسات الحكومية والتجارية القائمة إلى إصابة البلاد والمجتمع بالشلل. وفي الواقع، لا تزال آثار ذلك بادية للعيان حتى اليوم، بعد 16 سنة من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. وإذ وجد الشباب أنفسهم بدون أي وسيلة لإعالة أسرهم، فقد اكتشفت الجماعات المسلحة فرصة للتجنيد عن طريق سد هذه الحاجة. لقد أخفقت السلطة المؤقتة في العراق في فهم أن استعادة النمو الاقتصادي بشكل فوري تعني فرصة قوية لتحقيق سلام مستدام، وأن الشركات المملوكة للدولة كانت حلًا تجاهلته.
نجد أفضل تلخيص لأهمية الشركات المملوكة للدولة في تحقيق الاستقرار السياسي في دول ما بعد الصراع في تقرير أعده (نيل إيفرد) Neil Efird، وهو مسؤول سابق في بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو UNMIK، حيث كتب ما يلي: “توفر الشركات المملوكة للدولة فرصاً لدفع الاستراتيجية السياسية إلى ما وراء الاستقرار وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، وهي فرص يسيء فهمها الاستراتيجيون والمخططون السياسيون. إن قيام الشركات المملوكة للدولة بالعمل على النحو الصحيح يوفر منافع فورية وملموسة للسكان المحليين الذين يعد دعمهم ضروريًا لكسب الثقة والمصداقية … لأن السكان المحليين يتعرضون للصدمات النفسية في مواقف ما بعد الصراع، وبالتالي فإن تقديم تحسينات ملموسة ومرئية للحياة اليومية يوفر الأذرع والسيقان جنبًا إلى جنب مع القلوب والعقول”.
ووفقًا لذلك التقرير نفسه، فإن الخطوة الأولى في بناء وتعزيز هذه الشركات المملوكة للدولة هي إجراء تقييم للأضرار المادية والمالية التي تكبدتها وذلك من أجل تحديد الشركات التي يمكن إنقاذها وما هي تكلفة إنقاذها. ويمكن أن تساعد الدراسة الكاملة للسوق في تحديد نوعية المنتجات المطلوبة على الصعيدين المحلي والدولي. وتعد الحوكمة والشفافية الشديدتان مفتاح النجاح. ويُنصح بشدة بإلغاء تسييس القوى العاملة والإدارة، وإذا لزم الأمر يُنصح بتعيين مدير أجنبي لقيادة المرحلة الأولى من إعادة الهيكلة. ويجب أن تكون الأولوية هي التركيز على الشركات التي تقدم الخدمات الأساسية لعامة الناس، مثل شركات الطاقة الكهربائية والاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل والشركات الأساسية القائمة على البنية التحتية.
وفي مرحلة ما، سوف تحتاج ليبيا وسوريا واليمن إلى وضع برنامج شامل من خلال الشركات المملوكة للدولة، ويكون هذا البرنامج مترافقاً مع خطط قصيرة وطويلة الأجل لتوفير فرص العمل الفورية للاجئين العائدين والمقاتلين السابقين وآلاف العائلات النازحة. ويتعين على الحكومات أن تكون حريصة على عدم تدمير هذه الشركات من خلال التوظيف المفرط أو من خلال الإدارة الضعيفة والانتهازية.
سيعتمد نجاح هذه الشركات المملوكة للدولة في بيئة ما بعد الصراع اعتمادًا كبيرًا على قيادة الحكومات وأساليب إعادة الهيكلة التي تتبناها. واستنادًا إلى PwC، يجب أن تكون لدى الحكومات صيغة تتضمن رؤية وأهدافًا واضحة لكل شركة. ويجب أن تستند الهياكل الداخلية على الابتكار وحماية البيئة ونمو رأس المال البشري. ويجب أن تكون الأولوية للتركيز على الشفافية والحوكمة الشديدة مع وجود الانضباط المالي. كما يجب إعطاء الإدارة التنفيذية تفويضات ومهام وأدوار واضحة. وكذلك يجب تنفيذ آليات التدقيق الخارجي. يمكن لهذه الشركات تحقيق مستوى الاستقرار اللازم في بيئة ما بعد الصراع إذا تمت إدارتها على النحو الصحيح وبمساعدة منظمات دولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي IMF.
لذا، ما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها من كل هذا؟ من الواضح أن الرأسمالية واقتصادات السوق الحرة لا يمكن أن تعمل بمفردها دون حماية حكومية، مثلما رأينا في عام 2008 عندما اضطرت الحكومة الأمريكية إلى إنفاق 49.5 مليار دولار أمريكي للحصول على حصة بنسبة 61% في شركة (جنرال موتورز) General Motors لصناعة السيارات من أجل إنقاذها من الإفلاس وتجنب التصفية. واستنادًا إلى (مركز أبحاث السيارات) Center for Automotive Research، فقد وفرت هذه الخطوة أكثر من 2.63 مليون وظيفة في الاقتصاد الأمريكي في عام 2009. ومن ناحية أخرى، لا تستطيع الشركات المملوكة للدولة تحمل مسؤولية بناء اقتصاد دون المرونة والابتكار من جانب القطاع الخاص. وفي رأيي الشخصي، هناك حاجة لحضور حكومي قوي في الصناعات الرئيسية داخل الاقتصاد في أوقات الاستقرار وأوقات ما بعد الصراع من أجل الحماية من إخفاقات السوق. فهذا هو المجال الذي يمكن للشركات المملوكة للدولة أن تعمل فيه من خلال خلق توازن بين القطاعين العام والخاص.